كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} يَقْتَضِي حُصُولَ شَيْءٍ مِنْهُ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَمْسُوحَةِ بِهِ.
قِيلَ لَهُ: إنَّمَا أَفَادَ بِذَلِكَ تَأْكِيدَ وُجُوبِ النِّيَّةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ «مِنْ» قَدْ تَكُونُ لِبَدْءِ الْغَايَةِ كَقَوْلِك: خَرَجْت مِنْ الْكُوفَةِ، وَهَذَا كِتَابٌ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ؛ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ عَلَى هَذَا: لِيَكُنْ ابْتِدَاءُ الْأَخْذِ مِنْ الْأَرْضِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِالْوَجْهِ وَالْيَدِ بِلَا فَاصِلٍ يَفْصِلُ بَيْنَ الْأَخْذِ وَبَيْنَ الْمَسْحِ فَيَنْقَطِعُ حُكْمُ النِّيَّةِ وَيَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِهَا، وَهُوَ كَقَوْلِك: تَوَضَّأَ مِنْ النَّهْرِ؛ يَعْنِي أَنَّ ابْتِدَاءَ أَخْذِهِ مِنْ النَّهْرِ إلَى أَنْ اتَّصَلَ بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ مِنْ النَّهْرِ فِي إنَاءٍ وَتَوَضَّأَ مِنْهُ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ النَّهْرِ؟ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} يَعْنِي مِنْ بَعْضِهِ، وَأَفَادَ بِهِ أَنَّ أَيَّ بَعْضٍ مِنْهُ مَسَحْتُمْ بِهِ عَلَى جِهَةِ الْإِطْلَاقِ وَالتَّوْسِعَةِ.
وَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَاللُّؤْلُؤُ وَنَحْوُهَا فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ طَبْعِ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا هِيَ جَوَاهِرُ مَوْدُوعَةٌ فِيهَا، «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سُئِلَ عَنْ الرِّكَازِ: هُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ اللَّذَانِ خَلَقَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خُلِقَتْ».
وَاللُّؤْلُؤُ مِنْ الصَّدَفِ، وَالصَّدَفُ مِنْ حَيَوَانِ الْمَاءِ؛ وَأَمَّا الرَّمَادُ فَهُوَ مِنْ الْخَشَبِ وَنَحْوِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ طَبْعِ الْأَرْضِ وَلَا مِنْ جَوْهَرِهَا.
وَأَمَّا الثَّلْجُ وَالْحَشِيشُ فَهُمَا كَالدَّقِيقِ وَالْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا، فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الصَّعِيدِ، وَلَا يَجُوزُ نَقْلُ الْأَبْدَالِ إلَى غَيْرِهَا إلَّا بِتَوْقِيفٍ، فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الصَّعِيدَ بَدَلًا مِنْ الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُ بَدَلٍ مِنْهُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَضْرِبَ يَدَهُ عَلَى ثَوْبٍ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ فَيَتَيَمَّمُ بِهِ، وَلَجَازَ التَّيَمُّمُ بِالْقُطْنِ وَالْحُبُوبِ؛ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا قَالَ: وَتُرَابُهَا لَنَا طَهُورٌ» وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِهِ بِالثَّلْجِ وَالْحَشِيشِ إذَا وَصَلَ إلَى الْأَرْضِ، فَلَوْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ لَجَازَ مَعَ وُجُودِ التُّرَابِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بِالصَّعِيدِ بَدَلٌ فَلَا يُنْتَقَلُ إلَى بَدَلٍ غَيْرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْأَرْضِ فَهُوَ كَالزَّرْنِيخِ وَالنُّورَةِ وَالْمَغْرَةِ إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ.
قِيلَ لَهُ: الزَّرْنِيخُ وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَرْضِ، وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ مَعَ وُجُودِ التُّرَابِ وَعَدَمِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مَعَ ذَلِكَ حَائِلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا الْأَرْضُ فِي الْأَغْلَبِ حَائِلَةٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَكَيْفَ يُشْبِهُهُ الثَّلْجُ وَالْحَشِيشُ وَإِنْ تَيَمَّمَ بِغُبَارِ ثَوْبٍ أَوْ لِبْدٍ وَقَدْ نَفَضَهُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنَّمَا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْغُبَارَ الَّذِي فِيهِ مِنْ الْأَرْضِ، وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي كَوْنِهِ فِي الثِّيَابِ أَوْ عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا أَنَّ الْمَاءَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي كَوْنِهِ فِي إنَاءٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ مَا عُصِرَ مِنْ ثَوْبٍ مَبْلُولٍ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى أَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى تُرَابًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ بِأَرْضٍ لَا تُرَابَ عَلَيْهَا، وَجَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ عَلَى أَصْلِهِ.
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ صَلَّى عَلَى مَسْحٍ مِنْ ثَلْجٍ أَصَابَهُ وَأَرَادُوا أَنْ يَتَيَمَّمُوا فَلَمْ يَجِدُوا تُرَابًا، فَقَالَ: «لِيَنْفُضَ أَحَدُكُمْ ثَوْبَهُ أَوْ صُفَّةَ سَرْجِهِ فَيَتَيَمَّمَ بِهِ».
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: «إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَلَمْ يَصِلْ إلَى الْأَرْضِ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى لِبْدِهِ وَسَرْجِهِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ بِهِ».
قَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ مَسْحَ الْبَعْضِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} وَأَنَّ الْبَاءَ تَقْتَضِي التَّبْعِيضَ، إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْقَلِيلِ مِنْهُ وَأَنَّ عَلَيْهِ مَسْحَ الْكَثِيرِ.
وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إنْ تَرَكَ الْمُتَيَمِّمُ مِنْ مَوَاضِعِ التَّيَمُّمِ شَيْئًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لَمْ يُجْزِهِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْزِيهِ إذَا تَرَكَ الْيَسِيرَ مِنْهُ؛ وَهَذَا أَوْلَى بِمَذْهَبِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ جَوَازَ التَّيَمُّمِ بِالْحِجَارَةِ الَّتِي لَا غُبَارَ عَلَيْهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَخْلِيلُ أَصَابِعِهِ بِالْحِجَارَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْيَسِيرِ مِنْهُ لَا يَضُرُّهُ؛ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ اسْتِيعَابِ الْبَيْتِ كُلِّهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْهُ.
قَوْله تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ الْحَرَجُ الضِّيقَ وَنَفَى اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ إرَادَةَ الْحَرَجِ بِنَا، سَاغَ الِاسْتِدْلَال بِظَاهِرِهِ فِي نَفْيِ الضِّيقِ وَإِثْبَاتِ التَّوْسِعَةِ فِي كُلِّ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ السَّمْعِيَّاتِ، فَيَكُونُ الْقَائِلُ بِمَا يُوجِبُ الْحَرَجَ وَالضِّيقَ مَحْجُوجًا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}.
وقَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: الطَّهَارَةُ مِنْ الذُّنُوبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ ذُنُوبُهُ مِنْ وَجْهِهِ، وَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتْ ذُنُوبُهُ مِنْ يَدِهِ» إلَى آخِرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} يَحْتَمِلُ التَّطْهِيرَ مِنْ الذُّنُوبِ وَيَحْتَمِلُ التَّطْهِيرَ مِنْ الْأَحْدَاثِ وَالْجَنَابَةِ وَالنَّجَاسَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وقَوْله تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} فَانْتَظَمَ لِطَهَارَةِ الْجَنَابَةِ وَالطَّهَارَةِ مِنْ النَّجَاسَةِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَك فَطَهِّرْ} فَلَمَّا احْتَمَلَ الْمَعْنَيَيْنِ فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا، فَيَكُونُ الْمُرَادُ التَّطْهِيرَ مِنْ الْأَحْدَاثِ وَالتَّطْهِيرَ بِهِ أَيْضًا مِنْ الذُّنُوبِ؛ وَهَذَا يَدُلُّ إذَا كَانَ الْمُرَادُ حُصُولَ الطَّهَارَةِ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ وَإِيجَابِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا ذُكِرَ ذَلِكَ عَقِيبَ التَّيَمُّمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ كَمَا دَلَّ عَلَى سُقُوطِهَا فِي الْوُضُوءِ.
قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ التَّيَمُّمُ يَقْتَضِي إحْضَارَ النِّيَّةِ فِي فَحْوَاهُ وَمُقْتَضَاهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ إسْقَاطَ مَا انْتَظَمَهُ، وَأَمَّا الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ فَلَا يَقْتَضِيَانِ النِّيَّةَ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ فِيهِمَا.
وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} كَلَامٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى تَضْمِينِهِ بِغَيْرِهِ، فَصَحَّ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ مَا انْتَظَمَهُ لَفْظُهُ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُ خُصُوصِهِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا مَا حَضَرَنَا مِنْ عِلْمِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا فِي ضِمْنِهَا مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى الْمَعَانِي، وَمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهِ الِاحْتِمَالِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُخْتَلِفُونَ فِيهَا، وَذَكَرْنَاهُ عَنْ قَائِلِيهَا مِنْ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَإِنْزَالِ اللَّهِ إيَّاهَا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْمَعَانِي، وَوُجُوهِ الدَّلَالَاتِ عَلَى الْأَحْكَامِ مَعَ أَمْرِهِ إيَّانَا بِاعْتِبَارِهَا وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فَحَثَّ عَلَى التَّفَكُّرِ فِيهِ، وَحَرَّضَنَا عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ وَالتَّدَبُّرِ، وَأَمَرَنَا بِالِاعْتِبَارِ لِنَتَسَابَقَ إلَى إدْرَاكِ أَحْكَامِهِ وَنَنَالَ دَرَجَةَ الْمُسْتَنْبِطِينَ وَالْعُلَمَاءِ النَّاظِرِينَ.
وَدَلَّ بِمَا أَنْزَلَ مِنْ الْآيِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْوُجُوهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي طَرِيقُ اسْتِدْرَاكِ مَعَانِيهَا السَّمْعُ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهَا، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُكَلَّفٌ بِالْقَوْلِ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُهُ وَنَظَرُهُ، وَأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ اعْتِقَادُ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ نَظَرُهُ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إلَى اسْتِدْرَاكِهِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ وَكَانَ جَائِزًا تَعَبَّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ بِمِثْلِ مَا حَصَلَ عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ جَعْلِ لَفْظِ الْكِتَابِ مُحْتَمِلًا لِلْمَعَانِي أَنْ يَكُونَ مُشَرِّعًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ عِنْدَهُ فَحْوَى الْآيَةِ وَمَا فِي مَضْمُونِ الْخِطَابِ وَمُقْتَضَاهُ مِنْ وُجُوهِ الِاحْتِمَالِ.
فَانْظُرْ عَلَى كَمْ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِفَحْوَاهَا وَمُقْتَضَاهَا مِنْ لَطِيفِ الْمَعَانِي وَكَثْرَةِ الْفَوَائِدِ وَضُرُوبِ مَا أَدَّتْ إلَيْهِ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِنْبَاطِ وَهَذِهِ إحْدَى دَلَائِلِ إعْجَازِ الْقُرْآنِ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ مِثْلِهِ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ.
وَأَنَا ذَاكِرٌ مُجْمَلًا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُفَصَّلًا لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى فَهْمِ قَارِئِهِ إذَا كَانَ مَجْمُوعًا مَحْصُورًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى نَسْأَلُ التَّوْفِيقَ.
فَأَوَّلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ قَوْله تَعَالَى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ} مَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ مِنْ إرَادَةِ الْقِيَامِ.
وَالثَّانِي: مَا اقْتَضَتْهُ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ مِنْ إيجَابِ الْغَسْلِ بَعْدَ الْقِيَامِ.
وَالثَّالِثُ: مَا احْتَمَلَهُ مِنْ الْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ نَزَلَتْ.
وَالرَّابِعُ: اقْتِضَاؤُهَا إيجَابَ الْوُضُوءِ مِنْ النَّوْمِ الْمُعْتَادِ الَّذِي يَصِحُّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ فِيهِ بِأَنَّهُ قَائِمٌ مِنْ النَّوْمِ.
وَالْخَامِسُ: احْتِمَالُهَا لِإِيجَابِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَاحْتِمَالُهَا لِطَهَارَةٍ وَاحِدَةٍ لِصَلَوَاتٍ كَثِيرَةٍ مَا لَمْ يُحْدِثْ.
وَالسَّادِسُ: احْتِمَالُهَا إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ وَإِيجَابُ الطَّهَارَةِ مِنْ الْإِحْدَاثِ.
وَالسَّابِعُ: دَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ الْوُضُوءِ بِإِمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى الْمَوْضِعِ مِنْ غَيْرِ دَلْكٍ وَاحْتِمَالُهَا لِقَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ الدَّلْكَ.
وَالثَّامِنُ: إيجَابُهَا بِظَاهِرِهَا إجْرَاءَ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَأَنَّ مَسْحَهَا غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَبُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ أَجَازَ الْمَسْحَ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ.
وَالتَّاسِعُ: دَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ الْوُضُوءِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ.
وَالْعَاشِرُ: دَلَالَتُهَا عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِالْفَرْضِ عَلَى مَا وَاجَهْنَا مِنْ الْمُتَوَضِّئِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وُجُوهَكُمْ} إذْ كَانَ الْوَجْهُ مَا وَاجَهَك، وَأَنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ غَيْرُ وَاجِبَيْنِ فِي الْوُضُوءِ.
وَالْحَادِي عَشَرَ: دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّ تَخْلِيلَ اللِّحْيَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ بَاطِنُهَا مِنْ الْوَجْهِ.
وَالثَّانِي عَشَرَ: دَلَالَتُهَا عَلَى نَفْيِ إيجَابِ التَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ.
وَالثَّالِثَ عَشَرَ: دَلَالَتُهَا عَلَى دُخُولِ الْمَرَافِقِ فِي الْغَسْلِ.
وَالرَّابِعَ عَشَرَ: احْتِمَالُهَا أَنْ تَكُونَ الْمَرَافِقُ غَيْرَ دَاخِلَةٍ فِيهِ.
وَالْخَامِسَ عَشَرَ: دَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ.
وَالسَّادِسَ عَشَرَ: احْتِمَالُهَا لِوُجُوبِ مَسْحِ الْجَمِيعِ.
وَالسَّابِعَ عَشَرَ: احْتِمَالُهَا لِجَوَازِ مَسْحِ الْبَعْضِ، أَيِّ بَعْضٍ كَانَ مِنْهُ.
وَالثَّامِنَ عَشَرَ: دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمَفْرُوضُ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ تَكْلِيفُهُ مَا لَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ.
وَالتَّاسِعَ عَشَرَ: احْتِمَالُهَا لِوُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ.
وَالْعِشْرُونَ: احْتِمَالُهَا لِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى قَوْلِ مُوجِبِي اسْتِيعَابِهَا بِالْمَسْحِ.
وَالْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مُجِيزِي مَسْحِ الْبَعْضِ بِقَوْلِهِ: {إلَى الْكَعْبَيْنِ}.
وَالثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى عَدَمِ إيجَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ وَأَنَّ الْوَاجِبَ إنَّمَا كَانَ أَحَدُهُمَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَالثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ فِي حَالِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ وَوُجُوبِ الْغَسْلِ فِي حَالِ ظُهُورِ الرِّجْلَيْنِ.
وَالرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ ثُمَّ أَكْمَلَ الطَّهَارَةَ قَبْلَ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى الْمَسْحِ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ.
وَالْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَ الْمَسْحَ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ مِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِأَنَّ الْمَاسِحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْجُرْمُوقَيْنِ جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ قَدْ مَسَحَ عَلَى رِجْلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: «قَدْ ضَرَبْت رِجْلَيْهِ» وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِمَا خُفَّانِ.
وَالسَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ فِي أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ غَيْرُ مُرَادٍ.
وَالسَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: دَلَالَتُهَا عَلَى لُزُومِ مُبَاشَرَةِ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ وَامْتِنَاعِ جَوَازِهِ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْخِمَارِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى بُطْلَانِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، فَقَوْلُهُ: {وَأَرْجُلَكُمْ} يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: {وَأَرْجُلَكُمْ} مُحْتَمِلًا لِلْمَسْحِ وَالْغَسْلِ وَأَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُهُمَا اسْتَعْمَلْنَاهُ مَا فِي حَالَيْنِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا، لِئَلَّا نُسْقِطُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَلَمْ تَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إلَى اسْتِعْمَالِ قَوْلِهِ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} عَلَى الْمَجَازِ، فَاسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ.